مرارة الجسد
كنت قد كتبت قصة قصيرة قبل سنوات طويلة أسميتها ( لمبة كوع ) تحكي عن واقع عشته وبقي في نفسي حتى يومنا هذا . الآن ! هناك اربعون عاماً مضت من حياتي و لا زال جسدي يخذلني بعض الأحيان . يخبرني سراً أنني بدأت أشيخ .
أعتقد أن أشد الأمور فزعاً وحزناً على نفس الإنسان هو أن تنتهي حياته في هذه الدنيا وحيداً , ليس بجانبه أحد ! قابعُ على سريره ينظر حولهُ بفزع وخوف , يبحث بين شقوق الجدران و النوافذ عن بصيص أمل أو قليل من رحمه يختبىء بينها .
قد تخطر في باله وصايا يريد أن يرسلها لمن يحب , او عبارات نسي أن يقولها لقلوب فقدها ولن تعود . يريد أن يصرخ ” أمي ” ولا يجد أذناً صاغيه سوى نفسه المتألمه والموت .
” نص القصة “
كانت الغرفة مُعتْمة وتخلو من الأثاث . غير بقايا لقطعة قطن باليه وضوء عرفت بعد حين أنهم يطلقون عليها إسم ” لمبة كوع ” , تراكم عليها الغبار . فأصبح الضوء المنبعث منها يصرخ ويستغيث لينتشر في المكان بضعف ووهن . كجسدي الهزيل وضعفي الذي أحمل في داخلي .
ذاكرة
ما أذكره جيداً أنني نظرت للضوء وعدت للخلف بضع خطوات وسقطت لأشعر بعدها بألم في أسفل الظهر كنبضة آلمتني واختفت بسرعة لتتركني أتجرع الآلام بقية عمري . كان لسقطتي تلك جرس قُرع في أعماقي . ليعلن بداية ألم لا ينتهي , سوى بلفظ أنفاسي . ألم في جسدي وألمٌ مصاحب له في أعماق روحي . وشتان هو الفرق بين آلام تتشبع بها الروح ولا يوجد لها مسكن أبداً . وبين ألم في ظاهر الجسد يزول بمسكن .
مرارة الجسد
مرت الأيام وأنا في بيتنا جسدٌ مسجّى على ظهره كقطعة قماش بالية , يعرف المارون بي أنني حي وأتنفس من عيناي التي تتبعهم في ذهابهم وإيابهم . وما كان يقتلني من الداخل هي أمي , فمع ما تحمله من هموم وأسى ابتلاها الله بطفل معاق , لتتراكم منغصات حياتها أكثر فتتحسر وتتألم على طفلها الذي لن يقدر يوما على المشي أو اللعب وعيش طفولة بريئة كبقية الأطفال .
أمي
تجتمع أسرتي للأكل وتبدء لحظات ألم من نوع غير عادي . تضعني أمي بقربها لأستلقي جسد لا يتحرك فيه غير فمه وعيناه تضع اللقم في فمي لأعيش فقط . لم يكن للقمة طعم ولا رائحة . حسرتي تتركز عليها , فهي لا تأكل ولا تهنأ بغذائها حتى أطبق فمي فتعرف أن صغيرها قد شبع . وتبدأ هي بالأكل . وقتها أتمنى لو غصصت بلقمة ومت حتى ترتاح هيا من همي . إحساس يقتل كل حياة في روحي وكل عزيمة للبقاء والعيش . ولا يمكن أن يتخيله بشر حتى .
والدي
سمعتهم يوما يقولون لوالدي انه لابد من علاج لهذه الحالة . لا تتركه هكذا . يجب ان تذهب به للبحث عن علاج , وفعلا شمر والدي عن ساعديه و حملني على كتفه وبدأ يجد بالبحث لي عن دواء من مكان لمكان ومن بلد لبلد , وباءت المحاولات بالفشل. صعبه هي لحظة التقاء عيني بعين والدي أجد فيها الكثير من الحزن والعجز أعرف لحظتها أنه لو كان بمقدوره لقطع أطرافه و أهداني إياها ولا أعرف كيف أوصل حديثي إليه !
حاولت أن أصرخ في وجهه :-
أنا بخير !
لا عليك سأكون قوياً وسننتصر .
يا الله يا والدي , أعلم جيداً أنك لا تعرف أنني أتذكر كل شيء , ولن أنسى . ستبقى لحظاتنا سراً في داخلي أسترجعه ما حييت .
إنتهى بي المطاف أنا ووالدي عند رجلٍ لا أذكره جيداً ولا أذكر بلاده حتى , ما أذكره أنه وهب لوالدي كيساً فيه دواء لحالتي أخذه وانصرفنا , كل منا يحمل هم صاحبه , هو يرغب في شفاء إبنه حتى يراه مبتسما سعيداً ويسمع صوته من جديد , وأنا أرغب في الشفاء أو الخلاص حتى يستريح هو , سرنا وكل منا لا يرغب أن تقع عينه على عين الآخر . ليرى كيف هو الأمل الكسير والخوف من أن يفشل العلاج .
القذارة
عدنا للبيت . عندها وضعني على الأرض وفي عينيه تختلط أحاسيس كُثر , أمل وحزن ودمع يطلب الإذن بالانسكاب . يحاول أن يخفي حزنه لخيبة قادمة , قد لا يشفيني الدواء فيرى الحزن على وجه إبنه يرسم حكاية عجزه أمامه , هو يعلم أنني وهو نحمل عينان تفضح كل ما يدور في دواخلنا وكأنها كتاب مفتوح أمام العالم . بدأ بخلط الدواء في إناء كبير وصب عليه من الزيت والماء حتى أصبح لزجاً وظهرت رائحته وكأنها رائحة طين عفن . وبدأ بتغطية جسمي بهِ كاملاً حتى غفوت مع الرائحة لوحدي و أصبحت من هذا اليوم . هي عطري الذي تميز به بيتنا . رائحة كريهة لا تطاق .
لم يرغب أحد في الجلوس بجانبي بسبب الرائحة المنبعثة مني , هما والداي يتناوبان على البقاء معي في الغرفة , الشعور هنا قاتلٌ للروح . أن نحمل في اجاسدنا كل هذا العجز أمرٌ هين أمام أن نترك لساعات طوال نحدق في السقف ونسترجع كل اللحظات القاسية والمؤلمة والعفنة في آن واحد .
أستمر والدي على هذه الحال يدخل والدي يده بالكيس ويبدأ خلط العفن ليتركه علي ويذهب . كنت أخفي عنه دموع العجز والقهر حتى يذهب . فأبدأ بلعن حالتي وحدي . تمنيت لو أنني لم أحيا لأرى ما أنا فيه .
شفاء لم يكتمل
الغريب أن الدواء كان ناجعاً لحالتي . بدأت الحياة تدب شيئاً فشيئاً بجسدي لأبدأ بالتقلب ذات اليمين والشمال حتى بدأت بالجلوس بمساعدة والدي . تماما كالطفل الرضيع يتعلم الجلوس ويبدأ بالوقوع ليرتطم رأسه بالأرض غير أن الطفل يبكي وينسى ويعود للمحاولة أما أنا كانت السقطة تُثنيني عن النهوض مرة أخرى . ألمها موجع لا يُنسى , تتورم فيصبح من الصعب أن استلقي على مكان الألم , غير أنني وان آلمتني لن أقوى على إزاحة رأسي بصعوبة فيصبح الألم قاسياً لا يزول أتجرعه في نفسي في كل حالاته حتى تدمع عيناي وأبكي بحرقة على حالي .
مرت هذه المرحلة بكل آلامها وهمومها حتى بدأت بالعودة تماما لإنسان سليم يقف ويمشي ويتكلم , غير أنها تركت أثراً لا يزول وكأن مرضي ترك لي ذكرى أتذكره بها كلما ظهر عجزي أمامي . ولأنني أحاول أن أكون كغيري اركض وأقفز هنا وهناك . كنتُ الوحيد صاحب السقطات الموجعة المؤلمة والنازفة . ولم أعلم حينها كيف ولماذا هي هكذا .
حتى تنبهت حينها , أنني لست مثلهم , ولن أكون مثلهم أبدا .
أغسطس 10 / 2018