. رائحة الجدار
رائحة الجدار الحلقة الخامسة : بعد يوم حافل في مدينة الضياع أنجليس , عدت للفندق متعباً ونمت كطفل صغير لم يكترث حتى لتبديل ملابسة , استيقظت بعدها في وقت متأخر من اليوم التالي , ووجدت في هاتفي اتصالات ورسائل من زوجتي تعتذر وتقول ان والدها في المستشفى منذ يومين ولم تستطع الرد على اتصالاتي ورسائلي لأنها نسيت هاتفها في منزل عمتها .
قبلت اعتذارها , وطلبت منها عنوان المستشفى لأزورهم هناك . ارسلت لي العنوان على هاتفي وخرجت من الفندق مسرعا قطعت مسافة طويلة حتى وصلت للطريق الرئيسي . عندها بدأت أفكر كيف سأصل الى هناك , فأنا لا أعرف كيف سأركب الجبني ! وأي جبني يجب أن أختار كي أصل لعنوان المستشفى .
لم أكن ذلك الوقت أعرف أن كل جبني يسجل على أحد جانبيه المحطة الأولى والأخيرة . وبينهما محطات أخرى يتوقف فيها الجبني فان كنت تعرف الأماكن جيدا فستعرف اين سيتوقف الجبني وفي اي اتجاه سيسير . اما في ذلك اليوم فلم يكن امامي سوى ركوب الترايسكل فسيكون من السهل علي أن أعطيه العنوان وهو من سيأخذني الى وجهتي .

مستشفى حكومي فلبيني
رائحة الجدار
وصلت الى المستشفى واستقبلتني عند بوابته . ودخلنا نسير في ممر طويل . وكانت تلك المرة الأولى التي ادخل فيها مستشفى حكومي في الفلبين كهذا , فرائحة المكان ليست كرائحة المستشفيات ! اي شيء آخر الا ان يكون مستشفى ، وكما يعرف بعضكم أن العلاج في مستشفيات الحكومة في الفلبين غير مجاني بالكامل . بل تتكفل الحكومة بما نسبته 20% من التكاليف والبقية على المريض . وتختلف النسبة من شخص لآخر حسب وظيفته , او التأمين الذي لديه , او فئته العمرية فكبار السن لهم تعامل خاص .
وصلت الى الغرفة . و كانت غرفة واسعه فيها سرر كثيرة لا يوجد بينها ستائر تعزل المرضى عن بعضهم , وفوق كل سرير مروحه حديدية بشعه وكأنها رأس شبح يطل من الجدار على سرير المريض . و في ركن الغرفة دورة مياه بابها صغير جداً ، وتفوح في المكان رائحة طعام نفاذة , وهذا طبيعي فهذا الشعب لا يجتمع في أي مكان بدون وجود طعام كافي , ليس كما نسميه نحن ( نقنقه ) بل طعام كامل الدسم وكأنهم في حفلة .
شاهدت بونق في السرير الأخير في زاوية الغرفة , فقطعت المسافة بين السرر أسير بهدوء , وكان المرضى ومن معهم وكأنهم يشاهدون مخلوقاً فضائياً , وهذه عادتهم في القرى فهم لا يشاهدون أجنبي الا نادراً . وحالتي هذه أستطيع أن أصفها بدخولي مسجد في أحد قرى نجد , قد يظن الغريب هناك أن رقاب الناس ستنكسر وهم يفحصونه حتى يخرج .
كان بونق نائماً , أيقظته زوجته فسلمت عليه وهز رأسه مرحباً بي . وشاهدت رجل أمن بجوار سرير بونق عرفت بعدها انه موجود لأن الطبيب كتب له الخروج من المستشفى ولكن بسبب عدم تسديد الفاتورة في لحظتها يقوم المستشفى بوضع حارس حتى لا تهرب . ذهبت مع زوجتي للمكان الذي تسدد فيه الفواتير وكانت الفاتورة بقيمة ١١ الف بيسو تقريبا ٩٠٠ ريال ولو شاهدتم المستشفى لعرفتم ان المبلغ كان كبير جدا .
بونق لا يستطيع ركوب جبني او ترايسكل وهو ضخم جدا فعدت للفندق وطلبت منهم سيارة لنحمله الى القرية . وفعلا عدنا للقرية بالسيارة وكان لهذه الأمور التي فعلتها ( الفزعة ) أثر كبير في نفس بونق وفي كل افراد العائلة فكانت فرصه جعلتني اتقرب منهم كثيراً . غير ان بونق كانت هذه المرة الأولى لمرضه فدخل بعدها ثلاث مرات للمستشفى وقد شارف على الموت في أحدها , وكنا قد ايقنا حينها أنه ميت لا محاله .
مرض بونق
نقلناه في تلك المرة الى المستشفى العام سيء السمعة , وكان العلاج فقط يطيل مدة بقائه عندهم دون تحسن يذكر فكل يوم تتردى حالته عن ذي قبل , فنقلته لمستشفى اكثر تطورا ليلقى علاج مناسب وفعلا كان قرارا انقذ حياة بونق رغم ان فاتورة العلاج وصلت الى سبعة آلاف ريال , وهذه قصه مضحكة مبكية في نفس الوقت . سأقصها عليكم .
عندما نقلته لمستشفى افضل من المستشفى العام . مكث فيها ما يقارب السبعة ايام دفعت حينها الف ريال دفعه اولى وعند الخروج كانت الفاتورة اعلى مما احتمل . فقلت يجب ان يشارك اخوته بدفع المبلغ وتوقعت ان يحضروا جميعهم ولكن اعتذروا كلهم بحجة أنهم لا يملكون مبلغ يزيد عن حاجتهم !
وكان هذا صادم لي فجميعهم حالتهم المادية جيده ولم اطلب مبلغا محددا اي مبلغ سيفي بالغرض . فلم يكن امامي سوى أن أحتال عليهم قلت لهم انه سيكون دين وسأسدده لهم شهريا فالمهم أن يخرج بونق . فما انتهى ذلك اليوم الا وقد اكتمل المبلغ , حتى ان احدهم دفع عشرون الف بيسو ، تخيلوا الموقف !
غضبت كثيرا في حينها , فهذا فرد من أفراد عائلتهم ! كيف تتخلى عن أخ لك بسبب المال ؟
ولكن المهم ان بونق خرج معافى . واصبحت صحته جيده جدا , وكان مرضه في الكبد بسبب ادمانه على الكحول . حتى انه بعد خروجه توقف عن التدخين وشرب الكحول فترة من الزمان .
لهذا السبب اخبرتكم في البداية انه في هذه الايام اذا شرب يعتذر مني . فهو يقول انني سبب في انقاذ حياته , ويظن بتفريطه في صحته أنه يغضبني .
بونق حالياً يشفق علي كثيرا بسبب انني لا أملك مال كالسابق . حتى أنه قبل مده , فاز بمبلغ , وجاء يحمل لي علبتين من سجائري المفضلة عطانيها وهو سعيد جداً . بونق فلبيني ولكن كريم وشهم ليس كبقية اخوته . هو وزوجته لديهم إيمان كامل بأن المسيح أرسلني منقذاً لهذه العائلة استجابة لصلواتهم .